[ الرد على من ضعف "صيام يوم عرفة" ].
وهذا نسخة كتاب ( pdf)
http://cutt.us/sn30Z
انسخ الرابط وضعه في سفاري
___________________________________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى اله وصحبه اجمعين، اما بعد.
فهذه وقفات مع تضعيف بعض طلبة العلم لحديث يوم عرفة الذي اورده مسلم في صحيحه ، وتطرقي انما هو لجانب حديثي بحسب ما ذكره هو في جزئه ، واما الجوانب الأخرى كذكر الاحاديث والاثار الدالة على استحباب صيام عرفة ، وكذا جانب النقولات عن أهل العلم والمحدثين في تصحيح هذا الحديث ، وايضا نقل الاجماعات الواردة على استحباب صيامه فلم اتطرق له ، فان هناك من وفى في بعض هذه الجوانب ومنهم الشيخ عبد القادر الجنيد فجزاه الله خيرا.
وهذا نص الحديث كما ذكره مسلم في صحيحه :
قال مسلم:
وحدثنا يحيى بن يحيى التميمي، وقتيبة بن سعيد، جميعا عن حماد، قال يحيى: أخبرنا حماد بن زيد، عن غيلان، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة: رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى عمر رضي الله عنه، غضبه، قال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فجعل عمر رضي الله عنه يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه، فقال عمر: يا رسول الله، كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: «لا صام ولا أفطر» - أو قال - «لم يصم ولم يفطر» قال: كيف من يصوم يومين ويفطر يوما؟ قال: «ويطيق ذلك أحد؟» قال: كيف من يصوم يوما ويفطر يوما؟ قال: «ذاك صوم داود عليه السلام» قال: كيف من يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: «وددت أني طوقت ذلك» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله»(١).
قال صاحب الجزء بعد أن ذكر من أخرجه: " منقطع بين عبد الله بن معبد وأبي قتادة" ، ثم ذكر قول البخاري: "ولا يعرف سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة"(٢).
ثم ذكر : "أن عبارة البخاري تلك تدل على الانقطاع".
ثم ذكر: قول الحافظ ابن حجر أن البخاري أكثر من تعليل الأحاديث بمجرد ذلك" ، أي بمجرد عدم العلم بالسماع بين الراوي وشيخه.
وهذا الكلام فيه نظر من وجهين:
الوجه الأول: أن هذه العبارة يطلقها البخاري ويقصد بها معان مختلفة:
١-فأحيانا يطلقها ويقصد بها حقيقة الانقطاع ، وهذا تعليل للحديث كما هو ظاهر....
ويكون ذلك حين يجزم بعدم لقائهما ....
أو يغلب على ظنه عدمه ...
وذلك بحسب القرائن قوة وضعفا ، والأمثلة كثيرة على ذلك ......
وليس هي نقطة البحث حتى نتطرق اليها ، ويطول الكلام ويمل القارئ.
________________
صحيح مسلم (١١٦٢/٤).
التريخ الكبير (٦٨/٣).
الا اني سوف اختصر الكلام في ذلك ، فالمحدث سواء البخاري أو غيره أحيانا يطلق تلك العبارة على هذا المعنى حين لم يدرك أحدهما الآخر ولم يعاصره ، وأحيانا حين يكون الحديث منكر ، وأحيانا حين تحصل المخالفة ، وأحيانا حين يبعد اجتماعهما لعلة ماء كتباعد البلدان أو كالصغر ، أو كون اغلب احاديثهما وجود واسطه بينهما ، أو كون الرواية بينهما إجازة .
والبخاري رحمه الله ربما اطلق هذه العبارة في إسناد معين ولو صح سماع بعضهما من بعض ، اذا كان فيه مخالفة او نكارة ، كما في حديث قتادة عن ابي نضرة في قراءة سورة بعد الفاتحة وكذا في حديث الانصات عند سماع القران..
٢- وأحيانا يطلقها ويقصد بها التوقف لوجود الشك في حقيقة السماع ، وهذه قد تحتمل تعليل الحديث ، وقد لا تحتمل ، كما قال: "حديث حمنة بنت جحش في المستحاضة هو حديث حسن إلا أن إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم، ولا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل أم لا؟، وكان أحمد بن حنبل يقول: هو حديث صحيح"(١).
فحسن الحديث ، مع حكمه بالشك في السماع بين الراوي وشيخه.
٣-وأحيانا يطلقها ويقصد الخبر المجرد ، اي انه لم يجد سماع الرواي من شيخه مصرحا به في الاسانيد ، وانما يروى عنهما بالعنعنة ، فهو رحمه الله يهتم من هذا الموضوع ، حتى لو كان الاسناد عنده مقبول وصحيح ، الا انه كونه لم يجد في الاسانيد التصريح بالسماع ، سوف يفيدنا في بعض الترجيحات ، وبعض المخالفات واشياء كثيرة تعرض للمحدث حين يقوم بقلبه حكم على حديث ، لا يعرف اهمية ذلك الا من مارس هذا الفن واختلط بدنه ولحمه كما هو حال البخاري واخوانه من المحدثين ، فهو لما يذكر لك حديث ويصححه ، او يخرجه
________________
(١) العلل (ص٥٨).
في صحيحه - كما سوف يمر معنا - وقد حكم على أحد رواته بأنه "لا يعلم سماع أحدهم من الآخر = إنما أراد أن يعطيك فائدة بانه لا يوجد تصريح بالسماع بينهما في الاسانيد..
وهذي هي نقطة بحثنا ، فسوف نذكر بعض الأمثلة أن البخاري ربما اطلق تلك العبارة وهو يصحح الحديث أو يخرجه في صحيحه ونحو ذلك:
المثال الأول: قال الترمذي: قال محمد: قتادة لا أرى له سماعا من بشير بن نهيك , وبشير بن نهيك لا أرى له سماعا من أبي هريرة"(١). ورواية بشير بن نهيك عن أبي هريرة في صحيح البخاري.
قال البخاري:
٢٤٩٢ - حدثنا بشر بن محمد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق شقيصا من مملوكه، فعليه خلاصه في ماله، فإن لم يكن له مال، قوم المملوك قيمة عدل، ثم استسعي غير مشقوق عليه»
وقال البخاري أيضا:
٢٦٢٦ - حدثنا حفص بن عمر، حدثنا همام، حدثنا قتادة، قال: حدثني النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العمرى جائزة» وقال عطاء: حدثني جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه
________________
العلل (ص٢٠٧).
وقال البخاري أيضا:
٥٨٦٤ - حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن خاتم الذهب» وقال عمرو، أخبرنا شعبة، عن قتادة: سمع النضر: سمع بشيرا، مثله
فهذه ثلاثة مواضع في صحيح البخاري لرواية بشير بن نهيك عن أبي هريرة...
وقد يُعترض على هذا ، بأن البخاري أخرجها في الشواهد ، وأيضا أن البخاري إنما يقصد بعد السماع بان روايته عنه كانت اجازة كما جاء ذلك عن الترمذي:
حدثنا محمود بن غيلان , قال: حدثنا وكيع , عن عمران بن حدير , عن أبي مجلز , عن بشير بن نهيك , قال: أتيت أبا هريرة بكتاب وقلت له: هذا حديث أرويه عنك؟ قال: نعم"(١)
أما كون ذلك في الشواهد ، فالجواب عنه انه بحسب الاستقراء في صحيح البخاري انه لا يوجد حديث مسند متصل منقطع سواء في الاصول او الشواهد..وما يوجد من أحاديث منقطعة كون حالها مسندة في الصحيحين فإن الانقطاع حاصل تبعا لا استقلالا ...
وأما كون ان البخاري اراد بعدم السماع الاجازة ، فهذا أيضا لا يغير من الموضوع شي ، بل أن ذلك يدل على أن البخاري يستخدم هذه الصيغة ولا يقصد بها تعليل الحديث وتضعيفه؛ فان البخاري وغيره يصححون الاجازات ..
________________
(١) العلل (ص٢٠٧).
المثال الثاني: جاء في العلل للترمذي:
قال محمد: ولا أعرف لأبي إسحاق سماعا من سعيد بن جبير"(١).
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي اسحاق عن سعيد بن جبير ...
قال البخاري رحمه الله:
٦٢٩٩ - حدثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا عباد بن موسى، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، قال: سئل ابن عباس: مثل من أنت حين قبض النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: «أنا يومئذ مختون» قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك،
٦٣٠٠ - وقال ابن إدريس، عن أبيه، عن أبيإسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: «قبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ختين»
فهذان اسنادان قد رواهما البخاري في صحيحه.!
وقد يُعترض على هذا بأن ذلك في الموقوف لا المرفوع...
والجواب كسابقه فان ما أسنده البخاري فهو صحيح عنده سواء كان موقوفا أو مرفوعا ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وعرفه في الأحاديث المعلقة إذا قال: قال فلان كذا، فهو من الصحيح المشروط"(٢).
________________
(١) العلل (ص٣٨٧).
(٢) الفتاوى الكبرى (٣٨/٦).
وقال أيضا:
"كما روى البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به وهو داخل في الصحيح الذي شرطه"(١)
وإذا كان نت المعلقات المجزومة داخلة في شرطه فالمسندات من باب أولى ، فإنها مجزوم بها ، مع زيادة أنها مسندة
الا أنه في المرفوعات لا يأتي بمثل هذه الاسانيد تشددا وتحريا لما يُضاف الى النبي ، وهذا من الادلة التي تدل على ان شرط البخاري في صحيحه شرط كمال ، لا شرطٌ في أصل الصحة كما سيمر معنا من كلام ابن كثير وغيره..
المثال الثالث: قال الترمذي:
قال محمد: حديث حمنة بنت جحش في المستحاضة هو حديث حسن إلا أن إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم لا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل أم لا. وكان أحمد بن حنبل يقول: هو حديث صحيح"(٢)
فهذا البخاري يحسن حديث مع أنه لا يعلم سماعا بين الراوي وشيخه.
المثال الرابع: حديث: "خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه" الذي رواه البخاري في صحيحه ، وروى حديثا أخر أيضا بنفس السند [ أبو عبد الرحمن السلمي عن عثمان ].
وسماع أبي عبد الرحمن السلمي من عثمان نفاه شعبة وابن معين وابو زرعة وقال"لم يذكر سماعا"(٣)
________________
الاستقامة (١٨٧/٢).
(٢) العلل (ص٥٨).
(٣) المراسيل لابن أبي حاتم (ص١٠٧).
وقد يُعترض على هذا: بأن اخراج البخاري له في صحيحه دليل على أنه سمع منه ، فهو في الحقيقة مخالف لشعبة ومن معه ...
والجواب عن ذلك:
ممكن أن يُقال أن هذا الاعتراض مبني على أن البخاري لا يكتفي بالمعاصرة التي احتفت بها القرائن من سماع بعضهما من بعض ، وهذا القول مرجوح (والله أعلم) ، وليس هذا موضوعنا...
الا ان الجواب الذي أراه مناسبا أن البخاري لم يخالف شعبة واحمد وابا حاتم وابن معين في عدم سماع أبي عبد الرحمن السلمي من عثمان ، وأقصد بذلك النفي أي أنه لم يوجد لابي عبد الرحمن تصريح بالسماع في الاحاديث التي رواها عن عثمان ، وهذا هو مقصد ْشعبة ومن معه وقد ألا عن ذلك أبو حاتم بقوله: "ولم يذكر سماعا".! فالنفي المُراد إنما هو "عدم ذكر السماع" ، الا أن ذلك كما تقدم لا يدل على الانقطاع ، وانما يذكرون ذلك للاخبار بانه لا يوجد سماع بينهما مصرح به ، مع أن غلبة الظن حاكمه بسماعهما ، ولذلك أخرجه البخاري مكتفيا بالمعاصرة مع وجود قرائن ترجح وتقوي السماع حقيقة وإن لم يذكر في السند...
وهذا أولى من نصب خلاف بين البخاري وبقية الائمة ، فإن الخلاف في كثير من المسائل لا حقيقة له الا بسبب ما التزمه الانسان من منهج فركب به الصعب والذلول..
وتوضيح ذلك باختصار ، فان البخاري لم يخالف واحدا وانما خالف جماعة ، منهم من هو اعلى طبقة منه ومنهم من هو في طبقته ومنهم من هو بمثل منزلته من هذا الفن أو أجل ، والراوي المُختلف فيه ليس في طبقة البخاري حتى يمكن أن نقول له ميزة اختصاص به أو أطلعه على شي لم يُطلع غيره عليه ، أو أن البخاري اطّلع على حاله .....الخ ، لا.. لم يحصل شي من ذلك ، فالراوي هنا تابعي متقدم الطبقة جدا ، فيبعد أن يطلع البخاري على شي لم يطلع عليه أولئك ، فالراجح ( والله أعلم) أن من نفى السماع إنما أراد السماع اللفظي ، ومن أثبته إنما اراد "السماع الحقيقي" ، وهو الاكتفاء بالمعاصرة مع وجود القرائن المرجحة للسماع...
فهذا أولى من نصب خلاف متوهم...
ولذلك قال الحافظ ابن حجر أن البخاري اعتمد في تصحيح هذا الحديث على المُعاصرة(١).
المثال الخامس: قال البخاري في رواية سليمان بن بريدة عن أبيه: "ولم يذكر سليمان سماعا من أبيه"(٢).
وقد حسن له حديث قال الترمذي: قال محمد: أصح الأحاديث عندي في المواقيت حديث جابر بن عبد الله , وحديث أبي موسى , قال: وحديث سفيان الثوري , عن علقمة بن مرثد , عن ابن بريدة , عن أبيه , في المواقيت هو حديث حسن"(٣).
المثال السادس: قال البخاري في رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه:
" عبد الله بن بريدة بن حصيب الأسلمي قاضي مرو عن أبيه سمع سمرة ومن عمران بن الحصين"(٤).
ومن عادة البخاري أنه إذا ذكر الراوي وجمع في سياق واحد ذكر روايته عن فلان بقوله " عن فلان .." ثم ذكر قال "وسمع فلان ...." فانه يقصد بالعنعنة أنه لم يعلم سماع فلان من فلان ولذلك صرح في الاخرين بالسماع ، ففرق بينهم ...
________________
فتح الباري، ( ٦٩٤/٨ ).
التاريخ الكبير، (٤/٤).
العلل، (ص٦٢).
التاريخ الكبير، (٥١/٥).
فإذا علمنا ذلك فإن البخاري قد أخرج لعبد الله بن بريدة عن أبيه في الصحيح محتجا به..
ونقول في هذا كما قلنا في السابق ، أن البخاري اعتمد على المعاصرة مع القرائن القوية جدا من سماع بعضهما من بعض ، فانه ابنه وعاش معه مايقارب (٣٠) سنة ورحل معه ، فيبعد أنه لم يسمع منه ان لم يستحل ذلك .! وانما مراد البخاري في ذلك كما مر سابقا ، انه لم يوجد التصريح بالسماع في التحديث..
وقد يُعترض على هذا بأنه وُجد التصريح بالسماع في بعض الأحاديث ...
والجواب: حسب تتبعي لتلك الاحاديث فان التصريح بالسماع خطأ ، وأن الصواب في الرواية( العنعنة )...
الوجه الثاني: أن شرط العلم بالسماع بين الراوي وشيخه = شرط كمال لا شرط في أصل الصحة ، فالمهم هو غلبة الظن في السماع ، وغلبة الظن لا تحصل بمجرد المعاصرة فقط ، بل لابد من وجود قرائن ترجح ذلك ، وهذا هو مذهب المحدثين عموما ، ومن اشترط ثبوت السماع نظريا ، فقد خالفه واقعيا ، وعلى رأسهم البخاري -ان سلمنا أنه اشتط ذلك نظريا- وذلك يدل على أن قواعد كل فن ، لا يتعامل معها على أنها نص قدسي لا يُزاد فيه ولا ينقص ، ولا يُحرر ، ولا يُفصل في بعض جزيئاته ...
فاالتعامل مع القواعد بالجمود له جناية على قواعد كل فن.!
قال ابن كثير في ايضاح هذا الوجه:
" وأما البخاري فإنه لا يشترطه في أصل الصحة، ولكن التزم ذلك في كتابه الصحيح"(١).
________________
الباعث الحثيث، (ص٤٣).
وكذا قال ذلك غير ابن كثير ، وعارضهم اخرون كالحفظ ابن حجر وابن وجب فقالوا أن البخاري يشتط ذلك في أصل الصحة وعللوا ذلك"بأن البخاري يعلل الأحاديث بذلك"
والجواب عن ذلك:
ان الجمع الذي يحصل به الوفاق والوئام ، أن يُقال كما مر معنا سابقا أن عبارة "عدم العلم بالسماع" ليس لها حالة واحدة بل ثلاث حالات:
الحالة الأولى: تكون تلك العبارة تضعيفا وتعليلا للحديث ، بحسب ما يقوم بقلب المحدث ؛ فإن تيقن أو غلب على ظنه حصول الانقطاع كان ذلك تعليلا للحديث ...
الحالة الثانية: أن يغلب على ظنه حصول السماع أو تيقنه ، ففي هذه الحالة تكون العبارة لمجرد الخبر بعدم وجود سماع بينهما ، ولا يُعلَّل بها الحديث...
الحالث الثالثة: تكون تلك العبارة على الشك ، وهذي الغالب فيها التعليل ...
فمن علل الاحاديث وضعفها بتلك العبارة فإنما أراد بها الحالة الأولى أو الثالثة ، ومن اطلقها وصحح الحديث فإنما أراد الحالة الثانية ...
وهذا الجمع يحل لك الاشكالات التي ربما تجدها في أحكام المحدث الواحد ، فتجده يطلق تلك العبارة قاصدا بها تضعيف الحديث ونكارته ، واحيانا تجده يطلق نفس العبارة وهو يحتج بالحديث ، كما مر معنا من أمثلة في تعامل البخاري لتلك العبارة...
ونختم بهذا النقل عن البخاري:
قال الترمذي:
سألت محمدا عن هذا الحديث فقلت له: أترى هذا الحديث محفوظا؟ قال: نعم. قلت له: عطاء بن يسار أدرك أبا واقد؟ فقال: ينبغي أن يكون أدركه , عطاء بن يسار قديم"(١).
فالبخاري هنا أثبت السماع بينهما لقرينة "القدم" ، مع أنه لا يعلم " السماع اللفظي " بينهما ؛ لأنه لو علمه لذكره ، لأنه لا يقدم على "السماع اللفظي" شيئا ، فلو وجده لذكره ولما احتاج لقرينة "كونه قديم" ليثبت سماعه منه ، كما جاء في (العلل) للترمذي:
"سألت محمدا عن هذا الحديث وقلت له: محمد بن المنكدر سمع من عائشة؟ فقال: نعم روى مخرمة بن بكير , عن أبيه , عن محمد بن المنكدر قال: سمعت عائشة"(٢).
فالسماع اللفظي له قوته عند المحدثين.....
الخلاصة:
١-قول البخاري "لا اعلم سماعا بين عبد الله بن معبد وابي قتادة" في "صيام يوم عرفة" لا يدل على التضعيف ولا الانقطاع ، والذي ظهر لي أنه يقصد الحالة الثانية ، وهي الخبر المجرد..وهذا ما ذكره هو في تاريخه الأوسط:
"ورواه عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء ولم يذكر سماعا من أبي قتادة"(٣). وهذا وضَّح عبارة البخاري في تاريخه الكبير....
________________
العلل، (ص٢٤١).
العلل، (ص١٢٨).
التاريخ الأوسط، (٢٦٦/١).
وهذا ما جعل الذهبي يقول عن قول البخاري:
"ولا يضره ذلك"(١). يقصد أن البخاري إنما أراد الخبر فقط ، والا فالكل يهاب أحكام البخاري ولا يُتقدم بين يديه بمثل ذلك القول...
٢-البخاري قد يطلق تلك العبارة وهو يصحح الحديث ويثبت السماع ، وانما اطلقها من باب الاخبار.
٣-أن تلك العبارة لها أحوال ينبغي لطالب العلم ان يبذل جهده ليعلم مراد المحدث من تلك العبارة وذلك بحسب كل حديث وما يحتف به.
٤-ان مما يبين مراد المحدث من تلك العبارة = حكمه على الحديث ، ونكارة الحديث ، ومخالفته للاحاديث الاخرى ، وكذا ضم عباراته بعضها إلى بعض.
٥-أن شرط البخاري في السماع لكمال الصحة لا شرط فيها.
٦-ليس الخلاف بين المحدثين سواء ، فالخلاف بين اثنين وما قارب ذلك ، ليس كخلاف واحد لجماعة ، فيحمل كلامه في مخالفة الجماعة على ما يوافقهم
٧-ان انتفاء "السماع اللفظي" لا يدل على انتفاء "السماع الحقيقي" ، فالسماع اللفظي دليل على السماع الحقيقي ، وانتفاء الدليل المعين لا يدل على انتفاء المدلول ، فهناك أدلة أخرى....
٨-قواع الحديث كقواعد أي فن آخر لا تقبل الجمود في التعامل معها ، بل لابد من معرفة تامة لتطبيق القاعدة على جزيئاتها ، والا لو كانت كل قاعدة تُطبق كما هي لا ستوى الجاهل والعالم ...
_____________
(١) ديون الضعفاء، (ص٢٢٩).
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ....
كتبه/ حسن صنيدح