[ وقفة مختصرة مع بعض دُعاة التفريق بين منهج المتقدمين و المتأخرين و جنايتهم على علم الحديث ].! تعريف الحديث المنكر كمثال كما ذكره صاحب المقطع.!
المبحث الأول: سبب الرد، وعتب، وتحليل ، وتقعيد.
[سبب الكتابة].
سألني أحد اخواني [أبو ربيع] أعانه الله و وفَّقه و سدَّده ، أن أكتب جواباً مُختصراً على مقطع قد أرسله لي ، فاستمعت للمقطع
____________
[ مشاهدة "دورة في علم الحديث على منهج المتقدمين I ج8 I أهمية فهم كلام المحدثين الأوائل" على YouTube - https://youtu.be/iZghzArKdjg ]
___________
و إذا هو يُدندن حول مسألة التفريق بين المتقدمين و المتأخرين ، (وغالبا يقصدون بالمتأخرين الحافظ ابن حجر ومن بعده ، وقبله ابن الصلاح ، الا ان مرادهم الأول "الحافظ" ، ومن بعده إلى المعاصرين كالالباني ، وأيضا هو مرادهم الثاني بعد الحافظ) ، أوما علموا (إن أحسنا الظن بهم) أنهم "بجرة قلم" هدموا جهد سنين متواصلة لفطاحلة قد "أفنوا أعمارهم في البحث والمذاكرة والتحقيق والجمع والتأليف".! وإن هم اعتذروا أو تلطفوا في العبارة أو "كما قالوا" بأنهم لم يقصدوا ما فهمه الشباب ، فقد سبق السيف العذل ، فقد أعرض كثير من الشباب عن كتب الحافظ وابن الصلاح ومن بعدهم الى عصرنا كما سيمر معنا في قصة لطيفة لبعض من تأثر بهذ الفكر.! وقد لا يلام هولاء الشباب وذلك لثقتهم بمن يتلقون منه العلم ، ولعدم اتساع مداركهم أيضا ، فإذا سمع الشاب سيل الكلام القاذع والارهاب الاعلامي في تلقي العلوم من مصطلحات المتأخرين = احجم عن كتب هولاء العلماء ، ونبذها بل واحتقرها.! حتى قال بعضهم منتقدا الحافظ في بعض تقاسيمه التي ذكرها " فأجزم أنها من كيس الحافظ" ، وقال أيضا ممارسا الإرهاب العلمي "فانظر إلى هذا (الجديد) و (التطوير) لمعاني المصطلحات، وتنبه إلى نتائج ذلك وأخطاره ".! وقال أيضا وهو يتكلم على بعض المواضع من نزهة النظر"كررنا التأكيد على خطرها وأثرها المدمر على علوم الحديث ".! فما موقف طلبة العلم من كتب هولاء العلماء في ظنك (بعد ما سمعوا هذا الكلام)؟! فهولاء الشيوخ وطلبة العلم ( كانوا أقدر على اختيار الألفاظ التي هي أنسب وأفضل ، وتجمع ولا تفرق) فقد ذكر -صاحب المقطع- أن هناك خلاف واضح بين المنهجين ، و أن ذلك أورث إشكالات في فهم مصطلح الحديث ، وضرب لذلك مثالاً و هو : تعريف " الحديث المُنكر " ، و اتَّهم المتأخرين بأنهم قصروا "حد" المنكر على "مخالفة الضعيف للثقة" ..!! و أن ذلك الحد أو التعريف من اولئك العلماء قد أورث جناية .!
[ الحديث الحسن كمثال ]
ولما أراد -صاحب المقطع- أن يُدلِّل لمنهج المتأخرين ومخالفته لمنهج المتقدمين ضرب الحديث الحسن كمثال ، وذلك أن المتأخرين جعلوا من شروط الحديث الحسن "اتصال السند" ، فقال مستخفا بعقول الناشئة المستمعين له "فهذا الترمذي يقول: "حديث حسن وليس اسناده بمتصل".! فهو يريد أن يقول (انظروا هذا الترمذي أطلق مصطلح "الحسن" على ما كان إسناده منقطع، واما المتأخرون فيخالفونه).! وذلك كي يقرر في عقول الصغار صحة مبدأ ما ذكره لهم سابقا من مسألة "مخالفة المتأخرين للمتقدمين".! ولكن ليعلم أن المتأخرين على حد زعمه (كالحافظ والألباني وغيرهم) قد يطلقون أيضا "الحسن" على ما كان إسناده منقطع .! وذلك باعتبارات يعرفها صغار طلبة العلم ، فهم في الحقيقة من هذه الحيثية متفقين مع الترمذي غير مختلفين ، نعم يحق للانسان أن ينتقد بعلم ، وفهم صحيح لنصوص العلماء ، لكن التلبيس والتدليس مذموم ، فالكل يعلم أن الترمذي له اصطلاح خاص في قوله الحسن ، فالحسن عنده ان لا يكون فيه متهم ولا يكون شاذا وان يروى من غير وجه ، فعلى هذا فقد يطلق "الترمذي" الحسن على حديث هو "منقطع" لكون له طرق وليس فيه متهم وليس بشاذ فما الغرابة في ذلك وما الإشكال فيه ؟! حتى المتأخرين على حد زعم "القوم" يطلقون "الحُسن" على ما كانت هذه صفته ، فأسأل الله أن يصلح قلوب طلبة العلم وأن يطهرها من كل ما يضرها، وللعلماء تخاريج طويلة للاحاديث التي حكم عليها"الترمذي"بالحسن ، وانما ذكرت هذا باختصار للتدليل على كيف يتعامل بعض المتصدرة مع نصوص العلماء.
[العالم قد يخطىء]
فلست امانع ان المشتغل بعلم الحديث قد يتوسع احيانا في تطبيق القواعد كما انه قد يقصِّر احيانا ، الا أن الذي أراه غير محمود ويزيد النفرة والفرقة هو نصب خلاف بين منهجين لعلماء اجلاء ، ومن ثم الصاق احد المنهجين بفهم "الخلف" وجعله منابذا ومضادا لفهم السلف وهذا بلا شك لا احد يرضاه ، فإن مخالفة السلف في كل علم " ذميم غايةٌ ".! وبسبب هذه العجلة والارهاب الفكري في المصطلحات العلمية أخذ الصغار يُحاكمون الكبار ، وتُحاكم مناهجهم على ضوء ذلك الحد او التعريف ، حتى أداهم ذلك الى الاستخفاف والاستهانة بعلماء لا يشك أحد حتى عدوهم في صدقهم وعلمهم وخدمتهم للدين، ووالله ان بعضهم قد قال لي قبل ان يمن الله عليه بترك هذه السبل المضلة بعد نقاشات معه ، قال:"والله كنت احتقر طالب العلم لما ينظر في كتب الالباني، وأقول في نفسي مسكين قد ضيع عمره ووقته".! فلا تـستغرب إذا قيل: "أنهم ضحايا".
[ كثير من طلبة العلم ضحايا].
و عموماً فأنا شخصيا لا ألوم مثل هذا الشخص أو غيره ؛ لأن الذي أعتقده أنهم ضحايا لمن هو أكبر منهم قدراً في العلم ، فإنهم عنه تلقوا هذه النظريات ، و استقوا هذه التشويهات والتهويشات من دروسهم ، فهم في الحقيقة مقلِّدون ، و ما يتفوهون به ليس الا ترديدا لكلام مشايخهم بلا تحقيق ولا تدقيق ، ولا أقول ذلك اعتباطاً أو تجنِّياً (لا والله) لأني قد سبرت القوم و ناقشت بعضهم =
[قصة .! ومثال يربك متعالم].
والشيء بالشيء يُذكر ، فأذكر أني كنت يوماً من الأيام في مجلسٍ و تكلَّم طالب من طلبة العلم المبرزين آن ذاك عند أصحابه ؛ فقال : الألباني مخالف لمنهج المتقدمين في علم الحديث ..!
فقلت له بعفوية مباشرة : في أي شي خالف الألباني المتقدمين؟!
فقال : في زيادة الثقة ..!! ثم أردف كلامه بقوله :
"فإنه يقبل الزيادة مُطلقاً" ، فقلت : ألم يرد الألباني زيادة "إنك لا تخلف الميعاد" ؟! مع أن الذي تفرد بها ثقة ، فبدأ الاحراج عليه=
[تقعيد لتعرية مايشوش به البعض]
و أردفت قائلا [بكلام لا استحضره كله الا أن هذا معناه] : هذه قواعد لعلم الحديث يتفقون عليها ، ثم يختلفون في التطبيق ، شأنها كشأن أي فنٍّ آخر ، كالقواعد الاصولية كقاعدة "الأمر للوجوب" ؛ فتجد علماء يتفقون عليها و لكن قد يختلفون في التطبيق ؛ و هكذا علم الحديث..!! فلا نصير خلافهم في التطبيق خلافا منهجيا ، وكذا القواعد العامة في العقيدة كقولهم : "إثبات ما أثبته الله لنفسه" ، يتفقون على هذه القاعدة ولكنهم قد يختلفون في التطبيق ، فإذا ورد نَصٌّ فيه صفة مُضافة لله ربما اختلف العلماء :
هل هذا النص من نصوص الصفات أم لا ؟!
فالنص الذي فيه إثبات الظل لله "يوم لاظل إلا ظله" الشيخ ابن باز - رحمه الله - أثبت الظل لله ، و الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - لم يثبته ، و لم يجعل هذا النص من نصوص الصفات ، و ابن تيمية جعل قول الله "فثم وجه الله" ليست من نصوص الصفات ، و جعل المراد من ذلك هي الجهة ، و خالفه تلميذه ابن القيم فجعل ذلك من نصوص الصفات ، و أنها تدل على صفة الوجه لله ؛ فلا نجعل خلافهم في التطبيق هو خلاف في المنهج ، ولا يسوغ ذلك أن يقال "ان ابن تيمية و ابن عثيمين مؤولون ، ومخالفون لمنهج السلف" ..!!
[تطبيق النسبية في علم الحديث]
وإذا أتينا لعلم الحديث ايضا وجدنا زخما من الأمثلة التي امتلأت بها كتب السنة والعلل والسؤالات والتراجم والتخاريج من اختلاف اساطين علم الحديث (كالبخاري وأحمد وأبي حاتم ومسلم وابن معين وابن المديني وأبي زرعة الى الدارقطني ومن في طبقته وإلى البيهقي ومن في طبقته .........الخ) فتجد اختلاف هولاء العلماء في الحديث الواحد وليس ذاك لاختلاف المناهج ، أو أن لكل منهم قواعد تضاد قواعد الآخر ..."لا" .! وإنما يحصل ذلك الاختلاف ؛ " لاختلاف الأفهام في تطبيق تلك القواعد في ذلك المثال المعين" ، ولم نجد أحدا منهم اتهم الآخر أنه على منهج هو خلاف منهج المحدثين ، ولم نجد أيضا أحدا "ممن كان في عصرهم" اتهم أحد "الطرفين" بتلك التهمة مع ردودهم المتكاثرة التي امتلأت بها الكتب .! فلا يبعد إذا قيل عن تلك "التهمة" أنها "بدعة عصرية".!
نستعرض بعض الاختلافات بين اولئك الشموس والأقمار.
الأمثلة.
المثال الأول: إعلال المحدث لحديث ؛ لظنه أن هذا الحديث خلاف الأحاديث الأخرى ، ومخالفة محدث آخر له في ذلك الفهم ، وأنه ليس على خلاف الاحاديث الأخرى.
فهذا ابو داود ينقل في سننه تعليل "حديثٍ" عن احمد بن حنبل واحمد ينقله عن شيخه عبد الرحمن ابن مهدي بأن ذلك الحديث خلاف الاحاديث الأخرى ، فقال ابو داود"وليس هذا عندي خلافه".! (٣٠٠/٢). وليس المقصد تضعيف الحديث او تصحيحه، وإنما المقصد اختلاف افهامهم في التعليل وإعمال كل منهم لعقله ، فهذا ابو داود وهو من تلاميذ احمد يخالف شيخه وشيخ شيخه في ذلك التعليل، فلم يُرْمَ بتلك "التهمة".! أو كيف يجرؤ على خلاف هولاء؟!
المثال الثاني: ضرب "أحمد بن حنبل" على أحاديث ، قد خرجها البخاري ومسلم ، كحديث "لو أن الناس اعتزلوا هذا الحي من قريش " ؛ لظنه -أحمد- أنها تخالف الاحاديث المشتهرة المتكاثرة ، التي تأمر بالصبر على جور الائمة وظلمهم.!
قال عبد الله بن أحمد: وقال أبي في مرضه الذي مات فيه: " اضرب على هذا الحديث (لو اعتزلوا هذا الحي من قريش ) ؛ فإنه خلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني قوله: " اسمعوا وأطيعوا واصبروا "
( مسند أحمد، ٣٨٣/١٣). وقال أيضا عنه: "قال المروذي: وقد كنت سمعته يقول: هو حديث رديء، يحتج به المعتزلة في ترك الجمعة"
(المنتخب ص١٦٣).!وانظر تعليق ابن القيم وكيف برر لإفهام المحدثين المختلفة ، ولم يعب على أحد منهم.! (الفروسية ، ص٦٨). وكذا فعل الإمام "أحمد" في حديث ابن مسعود الذي خرجه مسلم ، فقال: "وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود، ابن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصبروا حتى تلقوني" (مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود ص٤١٨ ).
فلم يفهم "البخاري ومسلم" ذلك الفهم الذي فهمة أحمد ولذلك اخرجوها في الصحيح ، فلا يحق لأحد ان ينصب خلافا بين اولئك الأئمة ، فيجعل المنهج "منهجين".!
المثال الثالث: تعليل المحدث لحديث لكونه يشبه احاديث راو آخر ضعيف، وذكره لبعض القرائن التي تدل على ذلك، بينما تجد محدث آخر يحتج بهذا الحديث في صحيحه ولا يلتفت لتلك القرائن.
اخرج البخاري في صحيحة حديث "اللهم رب هذه الدعوة التامة" وقد أعله ابو حاتم فقال: "وعرض علي بعض تلك الكتب فرأيتها مشابهاً لحديث إسحاق بن أبي فروة ، وهذا الحديث من تلك الأحاديث"( العلل ، ٣٢٠/٥)
المثال الرابع: حديث "اكثر عذاب القبر من البول" قال ابو حاتم: "باطل" (٥٥٨/٣). وقد صححه البخاري ، نقله الترمذي عنه في العلل(ص٤٢).
والأمثلة كثيرة جدا ، وكل هذا الخلاف هو خلاف في التطبيق ليس إلا ، لا اختلاف مناهج وطرق ، وساعد على ايجاد ذلك الخلاف = اختلاف أفهام المحدثين في تنزيل تلك القواعد على الأعيان والأمثلة.
ولكي لا نُطيل نتوقف عند المثال الذي ذكره صاحب المقطع ؛ وهو : " تعريف المنكر "
[مقدمة نذكرها بإيجاز].
[فلسفة التعاريف].
أوَّلاً : إن التعاريف و الحدود لم تكن يوماً عائقاً لفهم أي فن ، ولذلك لم يهتم بها السلف ، و إنما كان التطبيق هو الأصل والذي عليه المعوَّل ، فمن الظلم اتيانك لعالِم لتنظر في حدوده و تعاريفه ثم تحاكمه على ذلك ، فإن التعاريف انما وضِعَت في الأصل " لتقريب" العلم لا " لتحديده" ، وعند التطبيق قد يخالف العالم حرفية تلك الحدود و التعاريف ، فالتطبيق نهر والحد وادي ، وربما ضاق النهر ان جرى في حد الوادي ، و انظر للعلماء الذين تكلموا في مسألة :
"زيادة الثقة" فإن هناك علماء أجلاء قد قالوا : "زيادة الثقة مقبولة" ؛ كالبخاري و أبي زُرعة وهلم جر الى اخرهم وهو" مُحدِّث الشام الألباني" ، فانك قد تجدهم يخالفون ما قرَّروه و أطلقوه عندما يأتي التطبيق في الواقع ، وهنا قاعدة قد ظهرت لي بحسب اطلاعي لكثير من مناهج العلماء وهي أن : الحكم على منهج العالم إنما يكون "بتطبيقه لا بتنظيره"
[التوسع والتضييق وبدعة المناهج المختلفة ].
ثانياً : مِمَّا لاشك فيه ؛ أن العلماء وفي كل فن يختلفون في مقدار التوسع و التضييق في تطبيق القواعد ، والجري على سنن الحدود ، فبينما تجد بعضهم يتشدد في التطبيق ، تجد آخر يخالفه ويتوسع ، وتجد أيضاً آخرين يتوسطون وهكذا...
فلا يسوغ ذلك الخلاف نصب مناهج مختلفة للعلماء ، وفي الحقيقة هي منهج واحد، وانما الخلل في الفهم فإن الفهم ربما تخيل اشياء لا حقيقة لها.! ؛ وأيضا سوف تجد الذي كان متشددا(في نظرك) قد تساهل في مثال آخر ، بينما خالفه الذي كان يتساهل فتشدد في هذا المثال ، وسر المسألة أن تطبيق القواعد الجامدة بلا حس ولا تذوق لقواعد هذا الفن، ولا مراعاة للتعليل والنظر ، وما يحتف بذلك من قرائن = لم يكن يوما حرفة القوم ، فإنهم عن .!
[ الحديث الصحيح عند الكبار]
وانظر تعريفهم للحديث الصحيح ؛ [فإنه من اظهر الأمثلة وابينها] ، فليس كل إسنادٍ صحيح يدل على صحة المتن ، وليس ذلك لمخالفة أو شي من هذا ، [بل للحس والذوق وطول الممارسة والعمق العلمي الذي أورث في كل فنٍ "عُرْفاً" يميزون به بين الباطل والحق ] ، فعند غيرهم ضربا من الحدس والكهانة وعلم الغيب ، وعند أهله هو غاية التحقيق ، فهم قد نقَّوا وزكوا من كل علم [مظهره وجوهره] ، فإذا كشفوا لك عن شيء = رأيت ثم رأيت علما عظيما.
قال ابن القيم : "وأكثر الناس إنما هم أهل ظواهر في الكلام واللباس والأفعال، وأهل النقد منهم الذين يعبرون من الظاهر إلى حقيقته وباطنه، لا يبلغون عشر معشار غيرهم ولا قريبا من ذلك، فالله المستعان" (اعلام الموقعين(١٤٨/٤) ، وقال أبو حاتم الرازي: قال عبد الرحمن بن مهدي: «إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة»(العلل ٢٩/١). نعم [كهانة] .! إذ أن كل علم هو كالعرافة والسحر بالنسبة لمن يجهله.!
[أمثلة لتعاملهم مع الأخبار والأثار].
وبعض المحدثين ربما حكم على إسناد صحيح أنه "باطل" ، ومع ذلك يصرح ويقول : لا أعرف له علة، إلاّ أنه ليس بصحيح.! حتى عدَّه أهله -علم الحديث "إلهاما" .! قال محمد بن عبد الله بن نمير: قال عبد الرحمن بن مهدي: «معرفة الحديث إلهام» ( الجرح والتعديل(١٩/١) ، وهذا الامام الكبير "الخطيب البغدادي" يقول في حديث وقد استنكره : "لم يزل حديث مسروق هذا يتلجلج في صدري وأستنكره وأجيل فكري فيه سنين كثيرة فلا أعرف له علة ، لثقة رجاله واتصال إسناده، حتى حدثني الحسن".! (كشف المشكل ٤٨١/٤).
ثم ذكر "علته" التي قد حكم بها "مسبقا" ذوقه السليم ومعرفته الفذة وتعمقه قبل ان تقع عينه على ما أثبت به صدق حدسه وتوجسه.! ؛ فهل تجده قال ذلك و لم يُراع تلك القواعد القائلة : " أن الحديث إذا صح سنده وجب قبوله والعمل به". ؟! فالتطبيق لتلك النظريات هكذا مجردة دون "فهم" و "استشكالات" و "تعليلات" و "تذوق صحيح" ليس من العلم في شي ، فربما عجز المحدث عن الجواب اذا سئل عن سبب التعليل ، . قال ابن نمير: «لو قلت له "للمحدث" : من أين قلت؟ لم يكن له جواب»(الجرح والتعديل ١٩/١) ، وصدق ، بل وصل الأمر ان قالوا انهم يدعون علم الغيب كما حدث للرجل الذي سأل ابا حاتم عن بعض علل الحديث فكان يعللها ولا يذكر له سببا.! فقال الرجل: "أتدعي علم الغيب"(الجرح والتعديل ، ٣٥٠/١)
(الحاكم يُنَظِّر)
و انظر لكلام الحاكم عندما قال :
"إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط ، و إنما يعرف بالفهم و الحفظ و كثرة السماع ، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم و المعرفة ، ليظهر ما يخفى من علة الحديث"(معرفة علوم الحديث ص٥٩)
(أبو زرعة لا يعلم العلة)
وقد يُعِل المحدث الحديث ويُسأل "هل تعرف علته" فيقول: ( لا ).!
قال ابن أبي حاتم في علل الحديث: "سألت أبا زرعة عن حديث رواه بقية عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه لم يكن يرى بالقز والحرير للنساء بأسا". فقال أبو زرعة: "هذا حديث منكر. قلت: تعرف له علة ؟ قال: لا". ( ١/ ٤٨٨ ).
(كيف صدر هذا الكلام منهم)
وما صدر هذا الحكم منه الا أن هذا العلم لم يكن يوما عندهم قواعد جامدة يجريها العالم والجاهل على حد سواء، فلو كانت القاعدة تطبق كما هي لا ستوى فيها العالم والجاهل.! وانما الذي ميز العلماء عن غيرهم معرفتهم التامة في متى تطبق هذه القواعد.!
(إمامان في عصرين مختلفين )
فهذا ابو حاتم امام هذا الفن يقول: "سمعت هذا الحديث عن عبادة منذ حين، وكنت أنكره، ولم أفهم عورته حتى رأيته الآن".(٩٧/٢)
وهذا الحاكم يقول عن حديث: " هذا حديث رواته أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن لا نعرف له علة نعلله بها".! ( علوم الحديث، ص١١٩)
فتعريف الصحيح شيء ، والتطبيق شيء آخر ، وما جنى على العلم بمثل ما جنى عليه هولاء ، و ذلك في كل فن ،وليس ذلك حكراً على الحديث وأهله .
[ منهج الالباني التطبيقي حكما]
فإن أغلب من يدندن على مسالة المتأخرين و اختلاف المناهج ، إنَّما يقصدون الألباني أصالةً - رحمه الله - ، ويقصدون غيره أيضاً .
فإذ كان مرادهم الأول ، أو نقول من مراداتهم أصالةً الألباني ؛ فلنقتصر على الألباني و لنجعل منهجه حَكَماً ، فأما أن يدل على صحة كلام هولاء فحينها يجب علينا اتِّباعهم و الانقياد لكلامهم ، و إما أن يكون العكس ؛ فيظهر من منهج الشيخ ما يدل على جهلهم إن أحسنَّا الظن بهم (وهذا الذي أميل له) ، أو يدل على هوى متبع (وهذه لا حيلة فيها)، ولا يمكن الاحاطة بكل الانتقادات وانما سنأتي على المثال الذي ضربه هذا المتكلم في المقطع وهو : "تعريف المنكر"
[الأصل التطبيق]
-وكن معي مُستصحِباً ما مضى التنبيه عليه من الفرق بين وضع الحد وبين التطبيق ، و أيضاً أن الأصل في الحُكم هو التطبيق لا التنظير-
الألباني - رحمه الله - يُعرِّف المُنكر كما يُعرِّفه الحافظ "بأنه ما خالف فيه الضعيف الثقة" ؛ وهذا محل النقد عند القوم ، ويحاكم منهجه عليه .
فهل الألباني تمسك بحرفية هذا الحد؟! حتى يصح أن يُحاكم لذلك ، ومن ثَم يجعل له منهجاً مُخالِفاً لمنهج المُحدِّثين ؟! و مِما لا شك فيه أن مخالفة منهج السلف في كل فن مذموم ، فتكون النتيجة أن منهج الألباني و الحافظ بن حجر و غيرهما كثير ، تكون مناهجهم بتلك المخالفة مذمومة .
[المبحث الثاني]
الأمثلة التي تكلم عليها الألباني و حكم عليها بالنكارة ، مع أن المخالفة ليست من ضعيف لثقة .
المثال الأول : حكم على تَفرُّد ابن اسحاق أنه مُنكر .
حديث : "فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة ، وفي آخرها على وركه اليسرى"
وقد تفرَّد به ابن إسحاق ، وقد صرَّح بالتحديث ، و معلومٌ أن ابن اسحاق عند الشيخ الألباني (حسن الحديث) .
قال الألباني - رحمه الله - :
"و ذِكر التورُّك و التشهد الأوسط (منكر) في حديث ابن مسعود هذا ؛ فقد أخرجه الشيخان و الأربعة و غيرهم من طرق كثيرة ، وليس فيه هذا الذي ذكره ابن إسحاق . والله أعلم. "(صفة الصلاة ٨٣٢/٣)
المثال الثاني : حكم على تفرد الصدوق بأنه منكر .
قال الشيخ - رحمه الله - :
" إلاّ أن أبا يعقوب قال : (لبن) بدل (رطبات) . وهو شاذ أو منكر ، فإن أبا يعقوب هذا و إن كان صدوقاً ، فقد قال ابن حبان فى ترجمته : من الثقات ربما أخطأ"(ارواء الغليل، ٤٥/٤)
المثال الثالث: حكم على مُخالفة الثقة الذي فيه كلام يسير بأنه مُنكر .
قال الشيخ - رحمه الله - : "فتعيَّن أنه الراسبي ؛ لأنه متكلم فيه من قِبَل حفظه ، و إن كان ثقة في ذات نفسه ..... و لما كان قد تفرد بهذه الزيادة التي ليس لها شاهد في الطرق السابقة ، فالقواعد الحديثية تعطينا أنها زيادة منكرة ، كما لا يخفى على المهرة"(الضعيفة ٤٨٢/٣)
المثال الرابع : حكم على تفرد ثقة بالاتفاق بأنه منكر ؛ لأن متنه باطل .
قال الشيخ - رحمه الله - :
"و أما الرواية التي أخرجها الطبري في (كتابيه) من طريق سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفاً بلفظ :
"إن الله تعالى ذكره كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً ، فكان أول ما خلق
الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ... " الحديث .
فهو منكر جداً عندي ؛ لقوله : " ... فإنه يُشعر أن العرش
غير مخلوق !! وهذا باطل ، وقد رواه شعبة ، عن أبي هاشم فلم يذكر
فيه هذا الباطل ، ولعله من قبل أبي هاشم الرماني ، فإنه وإن كان ثقة بالاتفاق ، فقد غمزه ابن حبان"(الضعيفة، ٦٧٩/١٣)
وهذا يصلح دليلاً أيضاً أن الشيخ يُحاكم المتن أيضاً ولو صحَّ السند .
المثال الخامس : حكم على لفظة وردت بسند حسن "أنها منكرة" لمخالفتها أحاديث أُخرى .
قال الشيخ - رحمه الله - :
"حسن لكن قوله : (فلم يصل ....) منكر ؛ لمخالفته الثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلّى ـ ليلة إذ ـ إماماً ، والصلاة في الأقصى سنة ، يشرع شد الرحل إليه" .(التعليقات الحسان ، ١٧٣/١)
المثال السادس : حكم-الألباني- على لفظة خالف فيها حفص بن غياث وهو ثقة بالاتفاق ، بأنها منكرة .
قال الشيخ - رحمه الله - :
"تفرد بروايته حفص بن غياث لم يذكر فيه النزول ، ولا قوله تعالى المذكور ، بل رواه بلفظ : "ثم يأمر مُنادياً ينادي يقول : هل من داعٍ.." ، وهذا خطأٌ بيقين ؛ لمخالفة حفص لستة من الثقات رووه باللفظ الأول".
وقال في موطنٍ آخر مُتعقِّباً بعض المبتدعة:
"قد صحح هذا الحديث المُنكر".(الضعيفة، ٧٤٣/١٣)
المثال السابع: يحكم الشيخ على راوٍ أنه "حسن الحديث" ثم يجعل حديثه منكرا لمخالفته الثقة ، قال الالباني : ""محمد بن الأشعث" فمثله حسن الحديث عندي إذا لم يخالف، ولكن لما كان قد تفرد بهذا الحديث وخالف فيه الثقة وهو طلحة بن عبد الله بن عثمان القرشي الذي أثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل عائشة وهي صائمة، كان الحديث بسبب هذه المخالفة شاذا بل منكرا وقد اتق الشيخان على إخراج حديثها بلفظ: " كان يقبل وهو صائم " وليس فيه بيان أنها كانت صائمة أيضا كما في حديث القرشي عنها وقد خفي هذا على بعض أهل العلم، كما خفي عليه حال هذا الحديث المنكر" ( الضعيفة ، (٣٣٦/٣)
[الخاتمة]
وهذه الأمثلة مِمَّا أنا مُقيِّده عندي ، و ليست للحصر ؛ بل هي أكثر بكثير .
وتركت التعليق على الأمثلة لوضوحها ، فإنها تنوَّعت من ثقة باتفاق إلى ثقة فيه كلام يسير إلى حسن الحديث في أعلى مراتبه إلى صدوق ؛ وهكذا حكم على ذلك كله بانه منكر ؛ لنعلم أن جناية الغُرباء في كل فن على الفن نفسه ، و على أهل الفن عظيمة و وخيمة .
هذا و صلَّى الله على محمد و على أهله و صحبه .
كتبه أخوك / حسن بن صنيدح العجمي
صبيحة يوم الجمعة
11 شعبان 1436
29 مايو 2015
تنبيه :
• العنوان وضعه الناقل (أبور ربيع أحمد البريكي)
• التشكيل و علامات الترقيم قام بها الناقل.
• يُرجى عدم الزيادة أو الحذف من الجميع.